الجمعة، 31 مارس 2023

القراءة للمتعة

كتب كِت ولسن مقالة ينتقد فيها النهج المتبع في نهل الأدب، آخذًا تغريدة لخطة قراءة السنة ثم باحثًا عن نهجٍ أسلم. أعرض هنا ترجمتي لها:

في رفض الأخذ الوظيفي للأدب


كم هو مسكينٌ ليكس فرِدمان، ما أجهَل عالم الحاسوب المتبدّل إلى مقدم حلقات صوتية حين كتب في تغريدةٍ عشيّةَ السنة الميلادية ما عُرف على إثرها بـ"القائمة": ٥٢ كتابا أنوي قراءتها خلال عام ٢٠٢٣. يبيّن ليكس أن الخطة سهلة؛ كتاب كل أسبوع، بلا أفنون معيّن -كلاسكي، واقعي، خيال علمي.. إلخ-، كلها توصيات، وأخيرًا جدول صارم حيث يبدأ الإثنين وينتهي الأحد.
أظنكم تعرفون ما حصل بعدها. يبدو أن تويتر من بد غيره من المنصات بؤرة جاذبة للخائبين من أصحاب الأرقام العالية، المتلهفين -في غياب التقارير المدرسية اللامعة- إلى نصْب أنفسهم أضدادًا لبعض في سنوات الرشد، أو ما هو أبجح؛ إلى عدّ أنفسهم في خيال عكسي -وهم دود الكتب المضطهدون- من الرفعة ما يخوّلهم الاستهزاءَ بالتقني صاحب العقل الآلي (لا يستوعب المجاز) منذ ربيعه العاشر. وكان هذا وقتهم ولا ريب، أكدّو صفاقةً لليكس أن قائمته "بسيطة" و"محرجة" و"فكرةُ الغبي لقائمة قراءة الذكي".

جملة ما فعله فرِدمان هو تحدّي نفسه بقراءة كتابٍ كل أسبوع، صحيح أن بعض اختياراته مقفرة الجودة؛ إلا أن كتابًا واحدًا رديئًا (العاقل) من ٥٢ كتابًا نتيجة مرضية، ولا ضير في قراءة كتابٍ معطوب أحيانا حتى تتمرّن في معرفة مكامن السوء في الكتب. يحمل المشروع شيئًا من تغصّب القراءة ولا ريب، لكن من منا لم يقرأ كتابًا بلا تردد لمجرد تأنيب الضمير على عدم قراءته حتى الآن، أو لنيل استحسان محبوب، أو لأن ليونيل تريلينغ نصح بقراءته فنقع تحت سيطرة الافتنان؟ والظاهر أن الفوز بعيد المنال عن فرِدمان: يصرّح تويتر مستهزئًا أنه -فردمان- قد قرأ معظم كتب قائمته، ويبدو أنه أيضًا يستحق العقاب لمحاولة تعهده بالمشروع الآن.

الخسيس والمستهزئ على طبعهم، لن يتغيّروا. بيد أن خطة فردمان فيها ما يريب: ما مدى إتقان ضبطها؟

أتعلم ما ستقرأ في السابع عشر من مايو هذه السنة؟ قطعًا لا علم لي بما سأضعه على طاولة السرير. فهذا -بدهيًا- يعتمد اعتمادًا وثيقًا على ما أكتشفه من الآن حتى ذلك اليوم، وعلى تحولّاتي في كل منعطف. لكن فردمان عزم من الآن على قراءة سيدهارتا، يعقبه كثيب ثم فرانكشتاين.

وهذا -السلوك المذكور- ينافي الأخذ الحداثي والوظيفي للأدب. ويبدو أن فردمان لا يأبه بترتيب تتابع الكتب ولم بخطر على باله التعرّض لما قد يحيله إلى مسلك أدبي مختلف كل الاختلاف (لمّح بإمكانية التعديل، والواضح أنه منوط على تجدد التوصيات لا غير). بل هو لا يرى الكتب سوى قطع من المعرفة معزولة وقائمة بذاتها، قوائم مهام تنفَّذ على حدة؛ بلا أي ترتيب منظّم.

كُتبت سطور وسطور عن مفهومنا الحداثي البيكونيّ للمعرفة، وميلنا للنظر إلى التعلّم مجموعةً من الحقائق المنفصلة التي تقدم صورة الواقع كاملة فور جمعها. تعرض قائمة فردمان هذا المفهوم في شكله المتطرف، والحل المقترح المفضل من نقادّه في "الفنون الحرة" وهو العودة إلى التعلم مما يسمى "الكتب العظيمة" -مجموعة من أهم الكتب في التاريخ- مقارب له في السوء. نعم فيها شيء من التراتبية والتنظيم، إلا أنها لا تزال تعامل الكتب مهامًا تنفَّذ، شريط في العقل يمتلئ مع كل كتاب حتى يكتمل.

خذ على سبيل المثال كتاب كلِفتن فادمان خطة قراءة العمر، أو متعة القراءة: دليل شغوف لأفضل ١٨٩ كاتبًا ومؤلفاتهم لتشارلز ڤون دورن والذي يتضمن "خطة قراءة عشرية"، أو سلسلة أعظم كتب العالم الغربي الذي يتضمن ٥١٧ كتابًا مرتبة ترتيبًا زمنيًا؛ على مكانة هذه المجموعة إلا أن القراءة لإكمال "خطة" أو "سلسلة" أراه شموليًا شموليّة القراءة لأجل "تحسين المفردات" أو "التنفيس" أو "تحسين التركيز".

المفقود هنا هو السؤال الجوهري: ما الغرض الحقيقي -إن لم يكن لغاية وظيفية- للقراءة؟

لا شك أن الجواب بالضرورة -وقد وصلنا إلى خطأ أي جواب أوحد شامل- يختلف باختلاف الكتاب، وبالتأكيد إن كان خياليا أو لا. تُقرأ الكتب غير الخيالية عادة لأسباب عملية، ولا بأس في هذا، أما الخيالية من جهة فعلينا التثبّت من فائدة قراءتها؛ بها ولِذَاتها. نحن نقرأ للمتعة، للفرح، للحكمة، للمَدَارك التي لا تصلنا بأي وعاء آخر. وهي تجربة فريدة مجزِيَة، يلخصّها ناباكوڤ تلخيصًا دقيقًا في وصفهِ قراءتَه لدكنز:
ما لنا عند قراءة البيت الموحش إلا الاسترخاء وفسح المجال لفقرات عظامنا. ومع أننا نقرأ بعقولنا، إلا أن اللذة الفنية محلها بين عظمتي الكتفين؛ الرعشة العابرة وراءهما هي قطعًا أعلى شعور تملّكته البشرية عند اتصالها بفنٍ أو علم خالص. ألا لنعبد الفقرات ووخزاتها، لنفخر أننا من الفقريات؛ بأننا فقريات يتصل آخرها برأس ذو شعلة إلهية. ما المخ سوى استمرار للعمود الفقري، والفتيل ممتد امتداد الشمعة في حشاها. أفإن لم نكن قادرين على الاستمتاع بالرعشة، على الاستمتاع بالأدب؛ لنستسلم إذن ونصب اهتمامنا على القصص المصورة، والمقاطع المصورة، و"كتب الأسبوع" عندنا.

وأزيد على ما قيل: إذا لم نقدر على الاستمتاع بالرعشة، فلنتوقف عن انتخال قوائم القراءة أداءً للواجب فحسب.

لا مناص من منهجية في القراءة أيا كانت؟ أحد أكبر انتقادات جيل الإنترنت -وهو في محله- أن تلقّفه للثقافة يتشتت أكثر فأكثر، نلجأ في غياب التعليم الصحيح إلى التقاط فتات مبعثر من صفحات ويكيبديا ووسائل التواصل الاجتماعي ورحلات طويلة داخل حجور الروابط الخفية داخل النصوص؛ حتى تصل لكل منا صورته الفريدة غير المتزنة عن الواقع. ترى هذا حاصلًا في تويتر، في محادثات بين كاتبين يافعين واعدين يتشاركان اكتشافاتهما المكنوزة: مقتطفات كتب، لقطات معارض، روابط موسيقية؛ وعادة ما تكون النتائج ساخرة: "انظر في أمر هذا الرجل، كاندنسكي!"

جليٌ أن أسلوب التعلّم العشوائي الاعتباطي هذا -المتكرر كل عدّة أجيال- نهايته كارثة، لكني أشك أن الحل في سلب المتعة الصادقة والحماسة هذه بقوائم لا تنتهي.

ما نحتاجه هو معرفة تاريخية أعمق، وعي هيكلي بتاريخنا الفني يكسوه كلٌ منا لحمًا في سعينا إلى ما يثيرنا. على كل طفل أن يجهز بفهم عميق سليم لتاريخنا الثقافي، وأن يعلم عموم المعرفة كيف تطورت الرواية ولماذا، وكيف تطورت السمفونيات ولماذا، وكيف فتح الفن التمثيلي الباب للتجريد ولماذا. علينا أن تستوعب واسع الإدراك ما نعلمه وما لا نعلمه قطعًا، ليتسنى لنا في الوقت المناسب تحديد ما نقرأه وما نسمعه وما نبحث عنه تاليًا بدقة، ولماذا. فإن كان ما يشد هواك الآن هو فلانري أوكونر وووكر بيرسي فتابع دربك، المهم أن تعرف مخطوطات أخرى تسعى في تلوينها في قادم عهدك.

ربما الكلام أسهل من الفعل، لكني أراه مسلكًا أجدى من معاملة عظيم الأدب وكأنه قائمة مهام. أما ليكس، لنأمل أنه في يوم ما قرب منتصف فبراير يجد كتابًا يعجبه أشد العجب، فيحوّل مساره إلى اتجاه مختلف كل الاختلاف حتى نهاية السنة. 

الجمعة، 24 مارس 2023

اجتثاث الأدب


 
كتبت ميري غيتسكل مقالة تتحدث فيها عن رؤية الناس للأدب، قارئين كانوا أم كاتبين، بين الماضي والحاضر. أعرض هنا ترجمتي لها: 


لأنني كاتبة أدب تخيّلي تدرِّس، دائما ما أتحدث عن حبي للخيال الأدبي وما الذي يجعله ماتعاً ومؤثراً. سأقدم هنا نسخة من كلام رددته كثيراً على مر السنين لطلابٍ ولأطياف أخرى مهتمة، وهو كلام -لا أدري كيف أصف ما أضحى إليه- لم أعد موقنة به في السنوات الخمس الأخيرة؛ لا لأني لا أؤمن به وليس بسبب قلة اهتمامي به الآن، بل لأني لم أعد متأكدة أنه ذو معنى للناس.

شعوري هذا حاضر لعدة أسباب، معظمها يتعلق بكيفية تلقي المعرفة والمعلومات وكيف غير هذا طبيعة الإدراك. ما أقوله ليس سابقة: انظر إلى الآيفون والإدمان على النظر إليه، تحوّلٌ مدوٍ له عواقب جلية في كيفية فهم الناس لكتابة وقراءة الرواية الخيالية.

كم هو شاق الحديث عنه بذاته -أعني كتابة وقراءة الرواية الخيالية- إلا أن تنكبّ عليه كبّا، لأن الآراء حوله ذاتية في المقام الأول؛ أحدهم يجد الكتاب عظيماً وآخر يراه مملاً، وثالث يراه خاوٍ من أي معنى. وهذه آراء تحمل في طياتها تأثراً سياسياً اجتماعياً، إلا أنها شخصية أيضا إلى درجة استحالة تحليلها. زد على ذلك أن الكتابة الحسنة تعتمد على السياق، فقد تجد عبارة أو جزئية أكبر قبيحة في سياق ومذهلة في سياق آخر. حينما تقرأ مراجعة كتاب في غودريدز أو نيويورك تايمز، ما تقرأه عادة هو وصف للحبكة، وللشخصيات، وماذا يظن المراجع (واسع الخيال أحياناً) عن رسالة المؤلف. هذا لأن هذه العناصر مهمة، وهي أيضا سهلة والحديث عنها ممتع.

بيد أن الأهم لا يُكتب عنه غالباً، فالتحدث عنه مستحيل، وهو ما أراه النسيج الداخلي؛ الحياة الكامنة وراء ظاهر القصة. فيها يعمل كل من الحبكة والثيمة عمل قناة؛ محتوىً لا يوصف شبيه بالعقل الباطن لشخصٍ أو لأحشاء جسد، الباطن لا يُرى بل يُستشعر، قد لا تفهمه إلا أنك تحس به. كلنا جرّبنا الحديث مع شخص يظهر عليه الود، يبتسم لك ومع ذلك لا ترتاح له؛ والعكس صحيح، قد مر بنا من يظهر عليه الوقاحة والخشونة، إلا أننا لسبب ما يتملكنا شعور طيب له، نتعاطف لشيء خافٍ تحت الإشارات الاجتماعية بل حتى نقيض لها.

لن ترى أحشاء الجسد ما لم تكن جراحاً أو شاهداً على حادثة شنيعة، لكن إن لمست جسد أحدهم ستستشعر يدك النبض وراءه، وقد تشمها في يوم قائظ. سواء شممتها وأحسستها أو لا، الأحشاء هي ما يحكم الجسد. باطن العقل والأحشاء كلاهما قوة جوهرية للشخص أمامك، شيء ما شبيه للجودة الجوهرية الداخلية هي ما تحدد حياة النص المكتوب من عدمه. وهي ما تحدد ماهية النص، مثلها مثل الحبكة والثيمة وحتى الشخصيات. والغريب أن الكتّاب أنفسهم لا يميزون القوة الداخلية لنصوصهم لأنها متشابكة بنظرتنا الخاصة للنص، بالكاد نلحظها، كما نلحظ أنفاسنا.

تناقض هذه الجودة الداخلية الغامضة في كون عمقها يعبَّر عنه بما نراه سطحياً في النص: الأسلوب الأدبي [Style]. أفضل تعريف وصلني للأسلوب الأدبي سمعته من رجل غريب الأطوار يفرقني عمراً يدير مكتبة صغيرة عند مكان دراستي في ميشيغان. بقولي يفرقني في العمر أعني أنه كان في عقده الخامس بينما كان عمري ٢٢ عاماً، إلا أنه كان غريب المظهر، يوحى إلى الناظر أنه إما طاعن السن أو لا يشيب، بجسد لا شكل له ونظارات صغيرة سميكة العدسات ملتصقة برأسه البيضاوي الأصلع. يشاركه المكان رجل يبيع النباتات، يُرى دائما على كرسي صغير مرتفع وسط غابة من السعف يقرأ منهمكاً.
 
وجدته مذهلًا ناهلاً من علم ما توفر له -اعتقدت أنه قرأ كل ما كُتب- أكثر من جل أساتذتي. يرى هذا الرجل الأسلوب الأدبيَّ "نتيجة ثانوية حتمية" للكاتب في سبيل استشعاره شكلَ مؤلَّفه، مروراً باختيار الكلمات والقرارات الصغيرة وحتى الكبيرة. لم أستسغ مصطلح "نتيجة ثانوية"، لم أرها مركزية كما يجب أن تكون -من ذلك الحين كان يهمني الأسلوب الأدبي-؛ فقال أنه قصدها كما في النباتات، حيث المظهر هو النتيجة الثانوية للعمل الداخلي، وأنه السبيل الأوحد للنبتة حتى تُرى على قدر تركيبتها الجينية.
 
لم يغب عن بالي هذا التعريف قط، إذ أنها استعارة دقيقة مذهلة أيما إذهال. لا علم لي إلى أي حد يتقارب التوافق بين الأسلوب والمضمون، إلا أنها نظرة بليغة للأسلوب الأدبي حينما ينضج عن عمل صادق مرهف، ناجماً من أضمر دواخل المؤلف؛ حيث منتهى وجدان ما وراء الوعي.
 
أحد أهم عناصر الأسلوب الأدبي عندي هو وصف العالم الذي يخلقه المؤلف. تؤدي هذه التقنية المهمّشة في وقتنا هذا مقاصد مفيدة وعملية، مثل الإيصال غير المباشر لمشاعر الشخصية ووضع القارئ في موضع مناسب لعالم الشخصية: من أين؟ ما هي حالته المادية؟ ما هو حال الحي الذي يسكن به؟ بل حتى تخوض إلى ما هو أبعد: بإمكانها منح كلمات لما لا يعبَّر عنه وتشكيل عديم الشكل من خلال خلق رسوم وصور تتصل وراء العقلانية بأعمق مكامن جسد القصة؛ الأحشاء (اللا وعي).
ما الذي أعنيه بكلامي؟ الخيال الأدبي -وإن كان وراء الطبيعة أو خيالاً علمياً- يحكي عن الحياة، والحياة لا تُرى بالكلمات. فكر بكمّ الأحداث والأحوال التي مرت بك ولا تقدر على وصفها بالكلمات، حتى أسهلها؛ تعبير بملامح الوجه مثلاً. تمضي الحياة حتى في يوم هادئ كثيفة سريعة حولنا ومعظمها يعاش بالنظر والشعور والتفكير، متسعصية على التدوين المباشر. تترجمُ الكتابةُ الأحداثَ إلى كلمات، بيد أن المفارقة في كون أشدها أثراً ما يطوّع الكلمات متعدياً اللغة ليخطّ ما هو أصدق للحياة؛ محاكية عيشنا في عالم لا ينفك عن التغيّر والتحرّك أمام مرآنا. 
 
فالكتابة عملية عقلانية من أفكار وخواطر متصلة، أما الكتابة العظيمة فهي من منشأ أغرب؛ واجهة بين الإدراك الوجداني للشخص والعوالم الاجتماعية والطبيعية. وهي مرتبطة بالعقلانية ارتباط الأحلام بالخواطر؛ شاعرية وغير عقلانية. فمن خلال وسائلٍ شاعرية ولا عقلانية يُشع العالم غير المرئي في قصتك، كما توهج موسيقا صاخبة مشهد فلم أو مسلسل.
سأكتب اقتباساً من رواية فلاديمير ناباكوڤ "نار شاحبة" مثالاً لما أعنيه في حديثي، ومع أن هذه الرواية لم تلق شعبية رواية لوليتا إلا أنها خلّابة بتميّزها في اختلالها. الراوي في هذه الرواية شخص يبدو عليه العته، بروفيسور أدب شاذ في كلية في نيو إنغلاند ويزعم أنه ملك في منفاه. اسمه تشارلز كينبوت وجل مروياته تعنى بمشاعره غير المتبادلة مع جاره الشاعر جون شيد، وتتقاطع القصة مع ذكرياته في مملكته المذهلة زيمبلا حيث يأخذ ما شاء واشتهى من رجال وصبيان. بيد أن التقاليد -حتى في زيمبلا- تفرض عليه الزواج، فاختار امرأة شابة جميلة زوجة له؛ لصغر سنها لم تفهم لمَ لا يشتهي زوجها جماعها فعاشت بائسة. ليست شخصية مهمة أبداً ولم تحظ إلا بأسطر معدودة في كتاب يقع في ٣١٥ صفحة، سأعرض هنا اقتباسين منها (نقلت إليكم ترجمة الاقتباسين الصوتيين في المقالة الأصلية، هذا وما يليه):
 
❞ ما حد المشاعر التي كان يكنّها لـ»ديزا»؟ لامبالاة ودية واحترام بارد. لم يشعر تجاهها بأي رقة أو إثارة، حتى في ميعة زواجهما الأولى أما العطف والشجَن، فغير واردين كان، وظل على الدوام، مستهترا متحجر القلب لكن قلب ذاته الحالمة تغير تغيرات رائعة، قبل الانفصال وبعده.

 ‫هام بها في دنيا الحلم أحياناً، بعاطفة لا مثيل لها، أحلاما أكبر مما سمحت بها أحاسيسه الظاهرة كانت هذه الأحلام تحصل متى فكر فيها ولو وهلة قصيرة؛ فتحمل الأشجان، التي لا صلة بها بأي حال، صورتها إلى العالم الباطني مثلما يصبح عراك أو ترميم كأنه طائر عجيب في حكاية أطفال صيّرت هذه الأحلام التي تفطر  قلبه النثر الباحث حول أحاسيسه تجاهها شعراً متينا ًونادراً، تومض مويجاته الخامدة وتستبد به طيلة النهار، فتعود به إلى الأسى والترف ــــ ثم وحده الأسى، ثم وحده انعكاسه العابر ــــ لكن من غير أن تؤثر البتة في سلوكه تجاه «ديزا» الحقيقية.

أخذت صورتها، إذ كانت تقتحم منامه وتعود إليه ثانية، وتنهض متوجسة من أريكة بعيدة أو تذهب بحثا عن المبعوث الذي اخترق الستائر، كما قالوا، في الحسبان تغييرات الموضة لكن «ديزا» صاحبة الفستان الذي رآه في صيف انفجار مصانع الزجاج، أو يوم الأحد الأخير، أو أي وقت بغرفة الانتظار، بقيت إلى الأبد تماماً كما بدت يوم أخبرها أول مرة أنه لم يحبها حدث ذلك خلال رحلة إلى إيطاليا، بحديقة فندق على ضفة بحيرة ــــ حيث الورود وشجر الأروكاريا والكوبية الخضراء الذابلة ــــ 
ذات مساء صحو، بينما تسبح الجبال المطلة على الضفة البعيدة في ضباب الغروب، وتتنمنم البحيرة الخوخية اللون كلها بانتظام بزرقة باهتة، وتعرض جريدة عناوينها البارزة في الأسفل الموحل قرب الضفة الصخرية، تبدو حروفها واضحة تماماً عبر طبقة الطين الضحل الشفاف. ولأنها عندما سمعته، خرت على الحديقة في وضع مستحيل، مدققة في غريسة عشب ومقطبة وجهها، سحب كلماته على الفور لكن الصدمة رصعت المرآة حتماً، فتأثرت صورتُها في أحلامه، منذ ذلك الحين فصاعداً، بذاكرة ذلك الاعتراف، كأنما أصابتها عدوى مرض أو الآثار الخفية اللاحقة لعملية جراحية حميمة للغاية لا يؤتى على ذكرها. ‫ 

كان جوهر الحلم، بدل حبكته الفعلية، نفيا مستمرا لكونه لا يحبها تجاوز حلمه ــــ حبه لها، في نبرته العاطفية، في شغفه وعمقه الروحي، أي شيء آخر اختبره في وجوده الظاهر صار هذا الحب أشبه بليٍّ سرمدي بالأيدي، مثل تخبط الروح في متاهة لامتناهية من اليأس والندم كانت، إلى حد ما، أحلاما عاشقة، لأنها مشبعة بالرقة، بالتوق إلى أن يغوص برأسه في حضنها ويبكي الماضي الشنيع كانت مترعة بالوعي المرعب بأنها امرأة في ريعان الشباب، لكنها عاجزة للغاية كانت أطهر من حياته لم يكن ما بها من هالة شهوانية نابعاً منها، بل من أولئك اللواتي خانها معهن ــــ «فرينيا» ذات الذقن الزغب، «تيماندرا» الجميلة بتلك الفورة تحت مئزرها ــــ ومع ذلك، ظل الزبد الجنسي ثاويا في مكان ما أعلى بكثير من الكنز المغمور، فلم يعبأ به تماماً. ❝


*‏نصاً من ترجمة محمد جليد، منشورات الجمل
 
 
لاحظ في البدء اللغة التعبيرية في الجمل، تكاد تنفصل عن معناها؛ خامدة، ناعمة، متموجة، واهنة الشكل، ومتضخمة بمعاني الكلمات "النعمة الفاترة لحزن لا يوصف". "تخبط الروح"، حركة المياه الساكنة، الشعور الخامد لا ينفك يخمد أكثر ثم يعود سريعاً كما كان. يشعل هذه اللغةَ التوقُ إلى مثالية لا تتحقق، تدمي في خضم الواقع الجامد "نتانة فاضحة ضحلة" في وجه الألوان الرائعة، غبش وامتزاج الحقيقي وغير الحقيقي، الحلم الذي قد يكون وهماً وقد يكون واقعاً أصدق من الحياة التي تعيشها الشخصية، "الكنز الغريق" المتشبث تحت زبد السطح. 
 
الواقع أن هذه الصورة -وهي أعمق في المشاعر ربما من بد كل ما في الرواية- هي جسر بين العالم المتخيل والحقيقي والاضطراب بينهما؛ ما خفي هو الحقيقي وقد لا نراه أبداً. هذا عندي هو الركيزة العاطفية في الكتاب، مثل الكنز مخبأً في ثنايا وصف شخصية ثانوية، وصف لا علاقة له في "تقدُّم أحداث القصة". 
 
المثال التالي بعيد كل البعد عن سابقه، أول قطعة لقصة ألفتها فلانري أوكونر بعنوان "مواطنون صالحون" [Good Country People]؛ وهي أيضا -على قصرها- تسهب الخوض في شخصية ثانوية.
وهذا مثال عظيم على الغرض النفعي في الوصف: نتعرف على شخصية محلية، نسمع كيف يتحدثون مع بعضهم، نلمح كيف يعيشون ويأكلون. وفيه أيضاً تُقدَّم لنا ثيمة عناد شديد، حالة لا يرى بها غير اتجاهيْن، حيث لا يشغر التساؤل حيزاً فيها:
 

❞ طالما اعتات السيدة «فريمان» أن تجلس بمفردها ويرتسم على وجهها ملامح جامدة صلدة، وإلى جانب ذلك الوجه كان هناك طبيعتين: فتارة تتعامل بوجهٍ طَلِق وجرئ؛ وكان هو السائد والأصيل في معظم معاملاتها الإنسانية بأغلب الأحيان فكانت كمن يقود سيارته بشكلٍ اندفاعيٍ لا يأبه مما يواجهه فلم تختلس النظر يمينًا أو يسارًا كأنما تتبع خطًا أصفر اللون يتوسط طريقًا سريعًا؛ ولكنها على دراية تامة بمجريات الأمور من حولها مما تلمحه بطرف عينيها، وتارة أخرى قلما تلجأ للوجه الذي تغمره إمارات التشوش والارتباك والخجل، لأنها عادةً لا تتراجع عما انطلق منها قولًا أو ما سيكون، ولكن بفرض صدر منها هذا التصرف؛ كانت ملامح الجمود والثبات تتشكل على وجهها وحينئذ تتحرك عيناها السوداوين يمنة ويسرة بشكلٍ لا إراديٍ غير ملحوظ لتبدو كأنما تتقهقر عن موقفها، فتقف ومن يشاركها الموقف في جمود وكأن على رأسيهما الطير فكلما أرادت السيدة «هوب ويل» أن تخاطب السيدة « فريمان» وهي بتلك الحالة كان يتملك الأولى اليأس فتصيح بوجهها لعلها تفيق من هذا الحال وتتخلص من صمتها الرهيب، فلم تكن السيدة «فريمان» تمتلك قدرًا كبيرًا من السلام النفسي وتقبل الاعتراف بأخطائها على الإطلاق، بل كانت تتصلب وإذا ما رغبت في قول شيءٍ ما؛ كانت تتفوه بالتالي: «حسنًا، ربما ما كان يتحتم عليّ فعل ذلك الأمر، وربما العكس!». 

أو أنها تصمت وهي تحملق في رف المطبخ حيث يوجد مجموعة من الزجاجات المتسخة وتستكمل حديثها، قائلة: «أرى أنك لم تأكلي الكثير من التين الذي جلبتيه الصيف الماضي!». ❝


*نصاً من ترجمة إسلام محمود، المصري للنشر والتوزيع
 
 
الصوت ماكر فيه شيء من الهزل، إلا أن ما يصفه ثقيل وعيني، عالم محدود من أكياس الحبوب والشاحنات الثقيلة، لا مساحة فيه للتلون والحذق؛ مكان بائس لعقل معقّد. وفي نهاية القصة، تلقى إحدى الشخصيات العنيدة والمعقدة نفسها في المكان عينه، معاقة بجسدها الناقص، في نسخة متطرفة من الحالة المتنبأ بها في القطعة الأولى. لن تتذكر أسطر القطعة الأولى في النهاية ولن تحتاج التذكر، لأنك شعرت بها وستدرك التأثير في النهاية، بالذات حين ظهور السيدة فريمان فتؤكد الربط بمجرد حضورها. 
 
الحق أن قلة من الناس يقدر على مثل هذه الكتابة، قلة منهم حتى حاول؛ مانعه في جزء أن مثل هذا الانتباه الدقيق لوصوف دقيقة عن العالم المرئي أو تصويراته منذ زمن ولا تزال تلقى إجحاف التقدير وإنعدامه أحيانًا. خضت عام ٢٠٠٠ نقاشاً جامعياً مع زميل المهنة جورج ساوندرز. وفي خضم النقاش قلت ما كتبته في هذه المقالة مع التركيز على الاستعمالات العملية للأسلوب، مثلًا: أن تضع نفسك في جسد إحدى الشخصيات، وتجعلها تنظر إلى النافذة. العالم بأسره خارج النافذة، ما هو شعورك وأنت داخل الشخصية: السماء، الأشجار، المباني.. فانفجر جورج متحمّسًا: "ومن يفكر هكذا حقاً؟ من ذا اللي يفكر بالأشجار حين ينظر من النافذة؟ هذا تفكير الناس داخل الكتب".. أو شبيه لهذا الاقتباس، أنقل مقصده فقط. 
 
أدركت من تعليقه أني بدوت متصنعة سخيفة للفن أو تقليدية، لكني أعتقد أن الناس لا زالوا ينظرون من النافذة. قد لا يفكرون بالأشجار أو المباني أو السيارات أو الناس أو أي شيء يرونه؛ لكنهم يتلقّون كل ما يُرى، أو على الأقل كانوا. عام ٢٠٠٠ كان قبل العصر الذي تملك فيه كل أحد جوّالاً وسماعات لا سلكية، فهذا غيّر مجرى الأمور. نحن الآن أقل عرضة وإمكانية لتلقّي الأشجار، فقد لا نراها حتى إن نظرنا من النافذة.
 
أتت جويس كارول أوتس مؤخرا في ٢٠١٩ إلى كلية كريلمونت مكينا حيث كنت أدرّس وقتها وواجهَت فقرة أسئلة بخالص الود. أحضرت معي الكاتب جون أبدايك لأني كنت أدرس طلبتي رواية ألفها، وكان الطلبة يستصعبونها لأنه متحيز ومنتكس في سلوكه العنصري في جزء، ولأنه يفرط شرحاً لكلماته ويطنب في الوصف في الجزء الأعم؛ فتجده يكتب صفحات في وصف طريق سفر إلى منطقة ريفية. صعُب على الطلاب حتى تعقّب الأحداث، يمكنهم الإحاطة بها لكنها تسلتزم جلداً (أقل القليل أنها أعجبت أحدهم بعد ما استوعبها، وهذا أمر طيب). 

أردت سماع رأي أوتس عن هذه الرواية لأنها من جيل قديم، نفس جيل أبدايك. وما قالته -في ما معناه- هو: نعم، جون قادر على وصف أي شيء لكن لا أحد في وقتنا هذا يريد قراءة ما يكتبه، لأن -هنا أقتبس مباشرة- "الناس تجاوزوا هذه المرحلة".. فاجأني كلامها. "تجاوزوا"؟ هل تجاوزنا العالم الذي نعيش فيه؟ أهذا معقول؟

لعلمكم أني لا أقصد امتهان ساوندرز أو أوتس، فأنا أجلّهما، وما كانا إلا يطلِقان ما في جعبتهما (قد يظن جورج بالذات أني أبدو متعالمة، والحق أني أتفّهم مثل هذا الحكم؛ بيد أن هذه الأمور واقعية عندي وتستحق بليغ الكلامات وأقواها وأدلّها). وإن يكن، كلماتهما علقت في ذهني. كلاهما كاتبان رصينان ومميزان وبحسٍّ مختلف عنّي وقد يكونا على حق، محتمل -الحق هذا الأرجح- أن الأدب تجاوز المرحلة. لم نعد نرى العالم الحقيقي كما كنا، فلم نكتب كما كتبنا حينها. وهذا أحد أسباب أخذه استهتاراً فيُهمل حتى الدمار.

قد يُحمل كلامي محملاً بلاغياً، وهذا ليس مقصدي. وأتعجّب، على العينة التي مرت علي في قاعات دراسة الكتابة صغاراً كانوا أو كباراً، من كم الذين: ١) يعبرون عن قلقهم الشديد من التغيّر المناخي وآثاره على الكوكب، ٢) لا يهتمون أبداً برؤية غيرهم للعالم الذي يهتمون به؛ شكله وإحساسه وصوته، ٣) أقل اهتماماً حتى بالكتابة عن رؤيتهم له أو أقلها الالتفات لها. وفي التمارين الكتابية أيضاً، يصعب عليهم مثلاً وصف وجه أحدهم وصفاً وافياً. وما علّتهم أنهم لا يقدرون على الوصف، بعضهم يبدع إذا حاول؛ لكن الفكرة لا تتجلى لهم كما أظن أنها تتجلى عفوياً لجيلي.

ولعجبي، أحد الطلبة صرّح لي أنه لا يحب وصف تفاصيل أشباه الناس لأنه يظن فعلًا كهذا لا يختلف عن التحديق في وجه أحدهم وهذه وقاحة. وآخر أدلى اعتراضاً شبيهاً بأن الوصف يقتضي تقييم مظهر الموصوف على معايير الجمال التقليدية. واعتراض هذا الأخير باطل كلّه، فتحديد معايير الجمال التقليدية ممكنٌ بعيداً عن وصف وجه أحدهم للتركيز على ملاءمة طبيعة الموصوف مع ملامح وجهه.

أما الاعتراض الأول فهو منطقي عندي خلاف لاحقه،  لكنه يخلط بين المظهر الاجتماعي والمظهر الفني؛ فالمظهر الفني يُخلق من الاهتمام والاحترام. مثل قولك: أرى هذا الإنسان بعين عقلي وهو يستحق أدقّ ما أقدر من اهتمام، لأنه لن يبقى إلى الأبد وهو رائعٌ روعة الحيوانات الذين تشاهدهم في الوثائقيات التي تعرض جمال الحيوانات الوجلة المضني. هذا تبجيل تجاوز الاحترام، صورة أغزر وأرق من التبجيل الشائع -أو كان على الأقل- بين العوام أو غير الكتّاب.

أستذكر الآن ما شاهدته في محطة أنفاق بداية الثمانينات، لعلها ١٩٨٢. كنت جالسة في مؤخرة القاطرة الأخيرة ورأيت ثلاثة فتيان أو أربعة -أتذكرهم بعمر بين الحادية عشرة والثالثة عشرة، ربما أصغر- مجتمعين عند النافذة الخلفية محدقين خلالها شاخصين، غلبني الفضول فطللت فوق أكتافهم أشاهد ما أخذ انتباههم: ذلك المزيج الخارق بين السرعة والكثافة بينما يحتمي وطيس القطار ضارباً خرسانات الأنفاق ومعادنها، يترنح مرآنا منحى القاطرات، خاطفاً شذرات من وليد الشرار في كبح المعدن، وإشارات النفق، وميض السكة فسوادها كلما تقعقعنا من محطة لأختها قاطعين عشرات المنتظرين، أناس شتّى رأيناهم بأعيننا يتكلمون بأجسادهم قبل أن تقرأها عقولنا. كانت تجربة آخاذة أسرت قلوب الفتيان، الدهشة البكماء لكل ما يدرك. 

أظنني أتذكر المشهد واضحاً بعد هذه السنين لأن نظرات الفتيان كانت تبجيلاً طبيعياً لم يلقَّنوه؛ وإن كان المشهود ليس من جنس الطبيعة. وقد يكون صغر سني وقتها -وكنت في العشرينات- سبباً آخر لحفظه في ذاكرتي، أتلقّف بلا وعي ما يهمّني في الحياة والفنون التي أشتغلها. ومع جزمي بأنهم لم ينتبهوا لي إلا أن مشاركتي إياهم المشهد كانت مدركاً روحياً مثيل شعوري وأنا أقرأ كتاباً وحيدةً في غرفتي، أقرأ العالم من عينيّ كاتب فذ.

قد يبدو التماثل غريباً، لكنه منطقي عندي لأنه مثال حي لما تحدثت عنه بداية المقالة؛ قدرة كشف مكمون القصص عبر صور وصفية لما لا علاقة له لظاهر القصة. أمور لا نتوقع تأثيرها ونلحظها زاخرة أو بطرف عين، رسمات تُلمح خارج حدود حياتنا اليومية.

يحزنني هاجسي بأن الفتيان عينهم في وقتنا هذا -إن كانوا أحياء- لن ينظروا خلال نافذة القاطرة لأنهم يحدقون في شاشات هواتفهم. بيد أن الأمل موجود ما دامت تلك القدرة في دواخلهم، تنتظر من يحييها.


الجمعة، 8 يوليو 2022

حيوات الآخرين


          ١. من تلك؟


كان والدي في ليننغارد الاتحاد السوفييتي مساء يوم ٢٧ مارس عام ١٩٦٩ يسعى لشهادة في الهندسة الإلكترونية. وكانت والدتي -يومها- في بيتنا بسراييفو تخوض الطلق أشده بحضور جمع من صديقاتها، تضع يداها على بطنها المستدير تصيح وتنفس، ولم يبد عليهن الفزع. وكنت أنا ابن الأربعة أعوام ونصف أحوم حولها بغية مسك يدها أو الجلوس في حضنها، وما لبثت حتى أُرسلت إلى غرفتي للنوم. إلا أني لم أذعن، فجعلت أراقب ما يصير من فتحة الباب (شبه الفرويدية). كنت مذعورًا حيث وإن عرفت أن ما في بطنها طفل فلم أدر كيف يخرج وما سيحل بوالدتي وبنا وبي بعدها، وتُركت في المنزل إذ ذهبوا بوالدتي للمشفى متوجعة تتألم بينما تحاول جدتي جوزفينا صد هواجسي المفزعة بجزمها أن والدتي لن تموت وستعود لي بأخ أو أخت. أردت عودة والدتي لكن بلا أخ أو أخت، وددت أن ترجع الأمور كما كانت على عهدي بها، والعالم متناسبًا بين يدي، لقد كان العالم محصورًا بي. 

دوام الحال من المحال، فبعد أيام رافقني راشدان (غرق اسماهما ووجهاهما في قاع موحل لعقل يشيخ، ما أذكره أن والدي ليس أحدهما حيث لا زال في الاتحاد السوفييتي) لنُخرج والدتي من المشفى. وأذكر أني كنت أسعد منها أضعافا عند ما التقينا، شاركتها المقعد الخلفي في طريق عودتنا ومعها كومة حشو يقولون إنها حيّة وأنها أختي. ووجه هذه كان بارز التجعّد لا يكاد يُرى فيه غير تجهم غريب قبيح. وهو مسود كأنه مسخَّم، فعند ما مررت بإصبعي على خدها ظهر خط بائن من السخام؛ فقلت لهم إنها متسخة، إلا أن أحدًا لم يهتم. من اليوم سيستعصي الإنصات إلي، بل حتى الحصول على الشوكولاتة.

كان مجيء أختي السخماء المزعومة بداية فترة عذاب ووحدة في مرحلتي المتقدمة، زارنا في بيتنا فوج من الناس (معهم شوكولاتة لا نصيب لي فيها) ليميلوا قربها ويتفوهوا أصواتًا سخيفة، قلة منهم اهتموا لي بينما كل الاهتمام يصبو إلى أختي بغير حق، فهي لا يأتي منها إلا النوم والبكاء وتغيير حفاظات متكرر. أما أنا فكنت قد تعلمت قراءة الكلمات القصيرة ناهيك عن التحدث بطلاقة، وعرفت ضروبا من الأمور الممتعة، فأميز أعلام عدد من الدول وأفرق بين الداجن والمتوحش من الحيوانات ولي صور لطيفة تملأ البيت. حصدت معرفة ومعانٍ وأدركت نفسي، أنا نفسٌ محبوبة بين الناس.

لذلك حاولت محو وجودها في أول فرصة سنحت لي، خرجت والدتي من المطبخ أحد أيام الربيع لتكلم بالهاتف تاركةً إياها معي وأغلب الظن أنها تكلم أبي في روسيا. غابت والدتي عن ناظري فترة فنظرت إلى المخلوقة الصغيرة، وجهها المُبهم وغياب التكوين والخواطر بيّن فيها، ضئيلة الظهور غير مستحقة للوجود. فجعلت أخنقها ضاغطًا قصبتها بإبهاميَّ كما رأيت في التلفاز، كانت لينة دافئة، حيَّة؛ وأملك وجودها بين يدي. أحسست وهن رقبتها بين أصابعي، كنت أوجعها وجسدها ينتفض للحياة، وتنبهتُ لقبح فعلي في رغبتي قتلها وهي أختي الصغيرة التي أحبها؛ إلا أن الجسد يسبق إعمال العقل فلم أترك يدي حتى بدأت تتقيأ لبن أمي. وفزعت لما تراءى لي فقدها، كان اسمها كرستينا وأنا أخوها الذي يكبرها ويريدها أن تكبر معه حتى يزداد حبه لها، ومع أني أعلم كيف أنهي حياتها لم أعرف كيف أنقذها من الموت.

سمعت والدتي بكاءها الشديد فتركت الهاتف وهبت لنجدتها، حملتها وهدأتها ومسحت القيء ومكنتها من الاستنشاق والتنفس ثم أرادت مني تفسيرًا للواقعة. ولم يمنع حبي المكتشَف لأختي وتأنيب ضميري تغلب غرائز البقاء عندي، فقلت صفاقةً أني لم أفعل إلا إسكاتها واضعًا يدي على فمها كي لا تزعج أمي في صياحها. وقد كنت في صغري أحذقَ مما يتصوره والديّ عني، كنت أكبر مما يروني عليه؛ فقد ادعيت هنا بلا خجل حسن نية طفل جاهل فحُذرت وعفي عني. لا شك أني روقبت برهة إلا أني لم أحاول قتل كرستينا من حينها، أحببتها حبًّا لا ينقطع.

كانت محاولة قتل أختي أول ذكرى ألحظ بها نفسي من الخارج حيث أراها وأختي. لن أتوحّد في العالم محصورًا فيه بعدها، لن أستفرد بنفسي مانعًا ولوج الآخرين سيادةً لحيزها، ولن أستحوذ على الشوكولاتة لنفسي دون غيري.

 

 

 

 

 

- من "كتاب حيواتي" [The Book of My Lives] للبوسني ألكسندر همن: القطعة الأولى من الفصل الأول

الثلاثاء، 17 أغسطس 2021

كيف يدمن الدماغ على القمار؟


تُشكّل المخدرات والقمار الدوائرَ العصبية على النهج ذاته

 

اعتاد الناس على وصف المدمن مجازًا لمن يبالغ باستمرار في تكرار عادة أو هواية ما، مثل مشاهدة الأفلام أو العروض أو التفاعل في وسائل التواصل الاجتماعي، وهذه أمثلة شائعة حاليًا في مجتمعنا. لكن حتى أشد المتوجسين يرى أن إدمان العادة أو الهواية إدمان حقيقي إلا أنه قسيم أقل وطأة من الإدمان الكيميائي، لا يتصور الأغلب أنهما -أحيانًا- متطابقان علميًا في كيفية الحدوث وحتى في العلاج. فمتى تكون العادة أو الهواية مسببةً لإدمان حقيقي ولماذا؟

يستعرض فيرس جيبر في مقالة نُشرت على ساينتيفيك أميركن هذه المسألة ويشرحها لنا.

 

 

يستهل الكاتب مقالته بسرد وجيز لقصة شيرلي، وهي إحدى ضحايا إدمان القمار. حينما كانت شيرلي في منتصف عقدها الثالث، ذهبت برًا في رحلة إلى لاس فيغاس مع رفاقها؛ كانت هذه تجربتها الأولى في القمار. بعد مضي حوالي عقد من الزمن، كانت تزور أتلانتيك سيتي بين حين وآخر أثناء عملها محامية في الساحل الشرقي. وفي نهاية عقدها الخامس، أصبحت تغيب عن العمل أربعة أيام في الأسبوع حتى تزور صالات قمار جديدة في كونيتيكت. كانت تلعب "البلاك جاك" تحديدًا معظم الوقت، مخاطرةً بآلاف الدولارات في كل جولة غالبًا؛ إلى أن وصل بها الحال أن تفتش تحت مقعد سيارتها عن ٣٥ سنتا حتى تدفع رسوم مواقف السيارات في طريق عودتها إلى المنزل. انتهى المطاف بشيرلي إلى المقامرة بكل قرش كسبته ورفع مديونية بطاقات ائتمانية عديدة إلى أقصاها. ويقتبس فيرس هذه العبارة لشيرلي: "أردت القمار طوال الوقت".. "عشقت شعور النشوة الذي أحسست به".

 

بدأت العواقب بالظهور في عام ٢٠٠١، فقد تمت إدانة شيرلي بسرقة مبالغ ضخمة من عملائها وقضت عامين في السجن. خلال هذه المدة، بدأت شيرلي بحضور لقاءات جمعية "غامبلرز أنونيمس" ورؤية اختصاصي نفسي، وقررت ترتيب حياتها من جديد. تقول شيرلي: "أدركت أني صرت مدمنة".. "لقد مضى دهر حتى قرَرْت بإدماني، وقد كنت كذلك، مثل أي مدمن آخر".

 

يستأنف فيرس مقالته بتبيان الرأي العام حول مفهوم "إدمان القمار" وحقيقته، فقبل عشر سنوات من وقت كتابة المقالة، كانت فكرة وجود إدمان على هواية ما مثل القمار مماثل للإدمان على المخدرات محل جدل. حينها، لم يقل أحد لشيرلي أنها مدمنة، إلا أنها أقرت بذلك من نفسها. والآن، يجمع الباحثون على أن القمار يعد إدمانًا حقيقيًا في بعض الحالات.

 

يلخص فيرس تشخيص مجتمع الطب النفسي للقمار المرضي في الماضي، فيذكر أنه كان يعد نزعة أكثر من كونه إدمانًا؛ حيث هو سلوك مدفوع بالحاجة إلى التنفيس من التوتر والقلق، لا بالتوق إلى متعة بالغة. في ثمانينيات القرن الماضي، حين تحديث الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية، صنفت الجمعية الأمريكية لعلم النفس القمارَ المرضي تحت اضطراب التحكم بالاندفاع؛ وهو تصنيف غامض يشمل وقتها أمراضًا مترابطة بشكل أو بآخر، كهوس الحرب وهوس السرقة وهوس نتف الشعر.

 

يعود فيرس إلى الحاضر في حدثٍ وصفه بقرار تاريخي، حيث نقلت الجمعيةُ القمارَ المرضي تحت فصل الإدمان في إصدارها الخامس (مايو ٢٠١٣). حسب فيرس، عكس هذا القرار الذي صدر بعد ١٥ عامًا من التروي والتدارس إدراكًا جديدًا في بيولوجية الإدمان، وغيّر أسلوب الأطباء النفسيين في التعامل مع من لا يستطيع التوقف عن القمار.

 

ويختم الكاتب الجزء الأول من المقالة بالتأكيد على ضرورة تطوير معالجةٍ أنجع وأكثر فعالية لإدمان القمار، فهو الآن منتشر ومقبول وسهل الوصول، أسهل حتى من السنين السابقة؛ ٤ من كل ٥ أمريكيين يقولون إنهم قد قامروا على الأقل مرة في حياتهم. وباستثناء هاواي ويوتاه، تعرض جميع الولايات شكلًا من أشكال القمار المشرعن. واليوم، لن تحتاج حتى لمغادرة منزلك لتقامر، كل ما تحتاج إليه هو الاتصال بالإنترنت أو جهاز جوال.

ويذكر فيرس أن العديد من الاستبانات تزعم أن حوالي مليوني أمريكي مدمن على القمار، وأن ما يقارب ٢٠ مليون أمريكي تطرّف في القمار حتى أثر على عمله وعلى حياته الاجتماعية.

 

صِنوان

يبدأ الكاتب في الفصل الأغنى من المقالة بشيء من التفصيل في التشابه بين إدمان القمار وإدمان المخدرات، فيذكر أن الجمعية الأمريكية لعلم النفس بنت قرارها على عدة دراسات حديثة في علم النفس وعلم الأعصاب وعلم الجينات، والتي أشارت إلى أن التشابه بين إدمان المخدرات وإدمان القمار أشد بكثير مما كان يُتصور. وقد طورت البحوث في العقدين الماضيين نموذج العمل لعلم الأعصاب فيما يخص التغيرات التي تطرأ على الدماغ كلما زاد الإدمان. ويسهب فيرس في الشرح فيذكر أن في منتصف جمجمتنا توجد سلسة دوائر تسمى "نظام المكافأة"، تربط هذه الدوائر مناطق متفرقة من الدماغ تختص بالذاكرة والحركة والمتعة والحافز. وعندما ننخرط في نشاط يشعرنا بالحياة أو بالتفوق على جيناتنا تنفث الأعصاب في نظام المكافأة مبعوثًا كيميائيًا يسمى "الدوبامين"، والذي بدوره يمنحنا شعورًا بالرضا ويشجعنا على اعتياد هذه الانشطة المبهجة ذات الشعور الرائع. وحينما يحفزه الأمفيتامين أو الكوكايين أو أي مخدر آخر، يطلق نظام المكافأة عشرة أضعاف الدوبامين المعتاد.

 

يستأنف الكاتب موضحًا أن الاستعمال المستمر لمثل هذه المخدرات ينزع عنها قوتها في إحداث النشوة، تُبقي المواد المسببة للإدمان الدماغَ مغمورًا بالدوبامين إلى أن يتكيف فيقلل من إنتاج المركبات ويقل التأثير. على إثر ذلك، يعتاد المدمنون المخدر، فيحتاجون كمية أكبر فأكبر حتى يصل التأثير. في خضم الإدمان الحاد، يمر المدمنون بأعراض الانسحابٍ -يحسون أنهم مرضى جسديًا، لا يستطيعون النوم، يرتجفون لا إراديًا- في حال حرمان أدمغتهم من مواد محفزة للدوبامين لفترة طويلة. في الوقت ذاته، تضعف المسارات العصبية التي تربط نظام المكافأة بقشرة فص الجبهة. وتساعد قشرة فص الجبهة (المتواجدة خلف وفوق العينين) في ترويض الاندفاعات. بصياغة أخرى: كلما زاد استخدام المدمن للمخدر، زادت صعوبة توقفه

 

ويبين فيرس وجه التشابه بين الإدمانين، فيذكر أن الدراسات حتى اللحظة تظهر تشارك المقامرين المرضيين ومدمني المخدرات في عدد من النزعات الجينية إلى الاندفاع والسعي إلى المكافأة. وكما يحتاج مدمنو المخدرات جرعات قوية حتى يصل التأثير، يسعى مدمنو القمار إلى مجازفات أخطر. وبالمثل، كلا الطرفان يعاني من أعراض الانسحاب حين الانفصال عن الكيماويات أو الإثارة المرغوبة. وتشير بعض الدرسات إلى أن البعض معرض أكثر من غيره لإدمان المخدرات والقمار معًا، وذلك لأن دوائر المكافأة خاملة وراثيًا؛ وهذا يبرر جزئيا رغبتهم بالإثارة البالغة في المقام الأول.

 

يستمر الكاتب في تدعيم حجته، فيذكر أن علماء الأعصاب اكتشفوا أن المخدرات والقمار يغيران دوائر الدماغ ذاتها بطرائق متشابهة. أتت هذه المَلاحظ من دراسات حول تدفق الدم والنشاط الكهربائي في أدمغة البشر إبان إتمامهم مهامًا متعددة على أجهزة حاسوب تحاكي ألعاب القمار أو تختبر قدرتهم على السيطرة على اندفاعاتهم. ويذكر فيرس أن بعض التجارب ترهن فوز اللاعب وخسارته للأموال على بطاقات افتراضية منتقاة من مختلف الألعاب، والبعض الآخر يتحدى سرعة استجابة الشخص لصور معينة تظهر على الشاشة دون التفاعل مع آخرين.

 

ثم يذهب الكاتب إلى دراسة ألمانية عام ٢٠٠٥ استخدمت في بحثها مثل ألعاب البطاقات المذكورة، تزعم هذه الدراسة أن اللاعبين -مثل مدمني المخدرات- يفقدون حساسية انتشائهم؛ فعند الفوز، يصبح لدى الأشخاص نشاطًا كهربائيًا أقل من المعتاد في منطقة أساسية من مناطق نظام المكافأة في الدماغ. ويستدعي فيرس دراستين إضافيتين إحداهما عام ٢٠٠٣ من جامعة ييل والثانية عام ٢٠١٢ من جامعة أمستردام، حيث اتضح من خلال اختبارات تقيس اندفاعية مدمني القمار أن لديهم مستويات أقل بكثير من المعتاد في النشاط الكهربائي للمناطق المعنية بتقويم المخاطر وكبح الاندفاعات في قشرة فص الجبهة؛ وهذا ينطبق أيضًا على مدمني المخدرات.

 

يكمل فيرس طرح أدلة تشابه الإدمانيْن، فيضيف أنها ظهرت عند فئة غير متوقعة من الناس؛ وهم من يعانون من مرض الاضطراب التنكسي باركنسون. وهو مرض يسبب الرعاش وتصلب العضلات، وسبب الإصابة به هو موت أعصاب تنتج الدوبامين في جزء من الدماغ المتوسط. ولاحظ الباحثون على مدار عقود وجود نسبة عالية من مرضى باركنسون (٢-٧ بالمائة)  في عداد مدمني القمار. يؤثر عادة علاج أحد المرضين على الآخر؛ فلتخفيف أعراض باركنسون، يأخذ المرضى ليفودوبا ومخدرات أخرى لزيادة مستوى الدوبامين. يعتقد الباحثون أن التدفق الكيميائي الناجم من هذه العملية يؤثر على طريقة عمل الدماغ فيبدأ بتقبل المخاطر والمكفآت (في البوكر على سبيل المثال) أكثر فأكثر.

 

يختتم الكاتب هذا الفصل بالتأكيد على مساهمة التصور الجديد لإدمان القمار في إعادة تعريف العلماء لمفهوم الإدمان نفسه، فقد كان يعتقد الخبراء فيما مضى أن مُحدث الإدمان كيميائي؛ أما الآن فهم يعرّفون الإدمان بالسعي الحثيث مرارًا إلى تجربة مجزية مهما بلغت خطورة التبعات. قد تحدث هذه النشوة بفعل الكوكايين أو الهيروين كما تحدث بشعور الإثارة حين مضاعفة الرهان في صالة قمار. ويستدعي فيرس اقتباسا للطبيب النفسي وخبير الإدمان في جامعة كاليفورنيا تيموثي فونغ يقول فيه "كان المفهوم السابق أنك تحتاج إلى تناول مخدرٍ يغير الكيمياء العصبية في الدماغ حتى تكون مدمنًا، لكننا نعي الآن أن الإدمان يشمل تقريبًا كل ما يغير في الدماغ".. "من المنطقي إمكانية تسبب بعض السلوكيات التي تضفي إحساسا عاليا بالمكافأة -كالقمار- بتغيرات جسدية أيضًا.

 

تلاعبٌ بالنظام

يبدأ فيرس الفصل الأخير من المقالة بالتصريح أن إعادة تعريف القمار القهري كإدمان ليس محض تغيير لفظي: وجد اختصاصيو علم النفس أن استجابة المقامرين المرضيين تجاه الأدوية والعلاج المستخدمة عادة للإدمان أعلى من استجابتهم للاستراتيجيات المستخدمة لكبح النزعات والاندفاعات (هوس نتف الشعر مثلا). ولأسباب لا تزال غامضة، تخفف مضادات اكتئاب معينة أعراض بعض اضطرابات التحكم بالاندفاع؛ لكنها لا تساعد أبدا في حالة القمار المرضي، إلا أن العلاج المستخدم لمدمني المواد أثبت فعالية أكبر بكثير. فالمضادات الأفيونية (كالنالتريكسون) تمنع الخلايا من إنتاج الدوبامين، مما يثبط النزعات.

 

يقحم فيرس علاجًا آخر للإدمان ويربطه بعلاج القمار المرضي، فيذكر أن عشرات الدراسات تؤكد فعالية العلاج المعرفي السلوكي -وهو علاج يعلم الناس مقاومة العادات والأفكار غير المرغوبة- في التشافي من الإدمان. وعليه، قد يتعلم مدمنو القمار -على سبيل المثال- كبح الاعتقادات اللاعقلانية؛ تحديدًا التصور الشائع أن ما يعقب سلسلة من الخسائر أو القرب من إصابة الهدف (مثل ظهور كرزتين من ثلاثة في مكينة القمار) فوز قريب.

 

يستعرض الكاتب أخيرًا نسبة الراغبين في العلاج، فيبين متأسفًا أن ٨٠% من مدمني القمار لا يسعون أصلًا إلى التشافي. وحتى ممن يتعالج منهم، ٧٥% يعودون إلى صالات القمار، وفي هذا تأكيد على أهمية منع القمار. تأخذ صالات القمار في الولايات المتحدة وتحديدا كاليفورنيا إدمان القمار على محمل الجد. يدرب مارك ليفكويتز، وهو مستشار في المجلس الوطني المعني بمشاكل القمار، مديري صالات القمار وموظفيها باستمرار على ملاحظة البوادر المقلقة؛ كمن يستهلك الكثير من الوقت والمال على القمار من الزبائن. ويطالب مارك صالات القمار بتخيير المقامرين في حظر أنفسهم طوعا وبإبراز منشورات جمعية "غامبلرز أنونيمس" وطرائق علاج أخرى بجانب الصرافات وكبائن الاتصال المدفوعة. قد يكون مدمن القمار مصدر دخل ثمين لصالات القمار في بادئ الأمر، إلا أن السواد الأعظم ينتهي بهم المطاف بديون ضخمة لا يستطيعون سدادها.

 

يختم فيرس جيبر المقالة بشيرلي كما بدأها، فيكتب أن شيرلي التي تبلغ من العمر الآن ستين عاما، تعمل كمستشار في برنامج يُعنى بعلاج مدمني القمار. تقول شيرلي: " أنا لست ضد القمار، هو يعتبر عند معظم الناس ترفًا، لكنه يعتبر عند البعض منتَجًا خطيرًا. كل ما أريده أن يعي الناس أن القمار يسبب الإدمان فعلًا. أود حقًا أن أرى كل صالة قمار وُجدت تتحمل المسؤولية."


القراءة للمتعة

كتب كِت ولسن مقالة ينتقد فيها النهج المتبع في نهل الأدب، آخذًا تغريدة لخطة قراءة السنة ثم باحثًا عن نهجٍ أسلم. أعرض هنا ترجمتي لها: في رفض ...