الجمعة، 31 مارس 2023

القراءة للمتعة

كتب كِت ولسن مقالة ينتقد فيها النهج المتبع في نهل الأدب، آخذًا تغريدة لخطة قراءة السنة ثم باحثًا عن نهجٍ أسلم. أعرض هنا ترجمتي لها:

في رفض الأخذ الوظيفي للأدب


كم هو مسكينٌ ليكس فرِدمان، ما أجهَل عالم الحاسوب المتبدّل إلى مقدم حلقات صوتية حين كتب في تغريدةٍ عشيّةَ السنة الميلادية ما عُرف على إثرها بـ"القائمة": ٥٢ كتابا أنوي قراءتها خلال عام ٢٠٢٣. يبيّن ليكس أن الخطة سهلة؛ كتاب كل أسبوع، بلا أفنون معيّن -كلاسكي، واقعي، خيال علمي.. إلخ-، كلها توصيات، وأخيرًا جدول صارم حيث يبدأ الإثنين وينتهي الأحد.
أظنكم تعرفون ما حصل بعدها. يبدو أن تويتر من بد غيره من المنصات بؤرة جاذبة للخائبين من أصحاب الأرقام العالية، المتلهفين -في غياب التقارير المدرسية اللامعة- إلى نصْب أنفسهم أضدادًا لبعض في سنوات الرشد، أو ما هو أبجح؛ إلى عدّ أنفسهم في خيال عكسي -وهم دود الكتب المضطهدون- من الرفعة ما يخوّلهم الاستهزاءَ بالتقني صاحب العقل الآلي (لا يستوعب المجاز) منذ ربيعه العاشر. وكان هذا وقتهم ولا ريب، أكدّو صفاقةً لليكس أن قائمته "بسيطة" و"محرجة" و"فكرةُ الغبي لقائمة قراءة الذكي".

جملة ما فعله فرِدمان هو تحدّي نفسه بقراءة كتابٍ كل أسبوع، صحيح أن بعض اختياراته مقفرة الجودة؛ إلا أن كتابًا واحدًا رديئًا (العاقل) من ٥٢ كتابًا نتيجة مرضية، ولا ضير في قراءة كتابٍ معطوب أحيانا حتى تتمرّن في معرفة مكامن السوء في الكتب. يحمل المشروع شيئًا من تغصّب القراءة ولا ريب، لكن من منا لم يقرأ كتابًا بلا تردد لمجرد تأنيب الضمير على عدم قراءته حتى الآن، أو لنيل استحسان محبوب، أو لأن ليونيل تريلينغ نصح بقراءته فنقع تحت سيطرة الافتنان؟ والظاهر أن الفوز بعيد المنال عن فرِدمان: يصرّح تويتر مستهزئًا أنه -فردمان- قد قرأ معظم كتب قائمته، ويبدو أنه أيضًا يستحق العقاب لمحاولة تعهده بالمشروع الآن.

الخسيس والمستهزئ على طبعهم، لن يتغيّروا. بيد أن خطة فردمان فيها ما يريب: ما مدى إتقان ضبطها؟

أتعلم ما ستقرأ في السابع عشر من مايو هذه السنة؟ قطعًا لا علم لي بما سأضعه على طاولة السرير. فهذا -بدهيًا- يعتمد اعتمادًا وثيقًا على ما أكتشفه من الآن حتى ذلك اليوم، وعلى تحولّاتي في كل منعطف. لكن فردمان عزم من الآن على قراءة سيدهارتا، يعقبه كثيب ثم فرانكشتاين.

وهذا -السلوك المذكور- ينافي الأخذ الحداثي والوظيفي للأدب. ويبدو أن فردمان لا يأبه بترتيب تتابع الكتب ولم بخطر على باله التعرّض لما قد يحيله إلى مسلك أدبي مختلف كل الاختلاف (لمّح بإمكانية التعديل، والواضح أنه منوط على تجدد التوصيات لا غير). بل هو لا يرى الكتب سوى قطع من المعرفة معزولة وقائمة بذاتها، قوائم مهام تنفَّذ على حدة؛ بلا أي ترتيب منظّم.

كُتبت سطور وسطور عن مفهومنا الحداثي البيكونيّ للمعرفة، وميلنا للنظر إلى التعلّم مجموعةً من الحقائق المنفصلة التي تقدم صورة الواقع كاملة فور جمعها. تعرض قائمة فردمان هذا المفهوم في شكله المتطرف، والحل المقترح المفضل من نقادّه في "الفنون الحرة" وهو العودة إلى التعلم مما يسمى "الكتب العظيمة" -مجموعة من أهم الكتب في التاريخ- مقارب له في السوء. نعم فيها شيء من التراتبية والتنظيم، إلا أنها لا تزال تعامل الكتب مهامًا تنفَّذ، شريط في العقل يمتلئ مع كل كتاب حتى يكتمل.

خذ على سبيل المثال كتاب كلِفتن فادمان خطة قراءة العمر، أو متعة القراءة: دليل شغوف لأفضل ١٨٩ كاتبًا ومؤلفاتهم لتشارلز ڤون دورن والذي يتضمن "خطة قراءة عشرية"، أو سلسلة أعظم كتب العالم الغربي الذي يتضمن ٥١٧ كتابًا مرتبة ترتيبًا زمنيًا؛ على مكانة هذه المجموعة إلا أن القراءة لإكمال "خطة" أو "سلسلة" أراه شموليًا شموليّة القراءة لأجل "تحسين المفردات" أو "التنفيس" أو "تحسين التركيز".

المفقود هنا هو السؤال الجوهري: ما الغرض الحقيقي -إن لم يكن لغاية وظيفية- للقراءة؟

لا شك أن الجواب بالضرورة -وقد وصلنا إلى خطأ أي جواب أوحد شامل- يختلف باختلاف الكتاب، وبالتأكيد إن كان خياليا أو لا. تُقرأ الكتب غير الخيالية عادة لأسباب عملية، ولا بأس في هذا، أما الخيالية من جهة فعلينا التثبّت من فائدة قراءتها؛ بها ولِذَاتها. نحن نقرأ للمتعة، للفرح، للحكمة، للمَدَارك التي لا تصلنا بأي وعاء آخر. وهي تجربة فريدة مجزِيَة، يلخصّها ناباكوڤ تلخيصًا دقيقًا في وصفهِ قراءتَه لدكنز:
ما لنا عند قراءة البيت الموحش إلا الاسترخاء وفسح المجال لفقرات عظامنا. ومع أننا نقرأ بعقولنا، إلا أن اللذة الفنية محلها بين عظمتي الكتفين؛ الرعشة العابرة وراءهما هي قطعًا أعلى شعور تملّكته البشرية عند اتصالها بفنٍ أو علم خالص. ألا لنعبد الفقرات ووخزاتها، لنفخر أننا من الفقريات؛ بأننا فقريات يتصل آخرها برأس ذو شعلة إلهية. ما المخ سوى استمرار للعمود الفقري، والفتيل ممتد امتداد الشمعة في حشاها. أفإن لم نكن قادرين على الاستمتاع بالرعشة، على الاستمتاع بالأدب؛ لنستسلم إذن ونصب اهتمامنا على القصص المصورة، والمقاطع المصورة، و"كتب الأسبوع" عندنا.

وأزيد على ما قيل: إذا لم نقدر على الاستمتاع بالرعشة، فلنتوقف عن انتخال قوائم القراءة أداءً للواجب فحسب.

لا مناص من منهجية في القراءة أيا كانت؟ أحد أكبر انتقادات جيل الإنترنت -وهو في محله- أن تلقّفه للثقافة يتشتت أكثر فأكثر، نلجأ في غياب التعليم الصحيح إلى التقاط فتات مبعثر من صفحات ويكيبديا ووسائل التواصل الاجتماعي ورحلات طويلة داخل حجور الروابط الخفية داخل النصوص؛ حتى تصل لكل منا صورته الفريدة غير المتزنة عن الواقع. ترى هذا حاصلًا في تويتر، في محادثات بين كاتبين يافعين واعدين يتشاركان اكتشافاتهما المكنوزة: مقتطفات كتب، لقطات معارض، روابط موسيقية؛ وعادة ما تكون النتائج ساخرة: "انظر في أمر هذا الرجل، كاندنسكي!"

جليٌ أن أسلوب التعلّم العشوائي الاعتباطي هذا -المتكرر كل عدّة أجيال- نهايته كارثة، لكني أشك أن الحل في سلب المتعة الصادقة والحماسة هذه بقوائم لا تنتهي.

ما نحتاجه هو معرفة تاريخية أعمق، وعي هيكلي بتاريخنا الفني يكسوه كلٌ منا لحمًا في سعينا إلى ما يثيرنا. على كل طفل أن يجهز بفهم عميق سليم لتاريخنا الثقافي، وأن يعلم عموم المعرفة كيف تطورت الرواية ولماذا، وكيف تطورت السمفونيات ولماذا، وكيف فتح الفن التمثيلي الباب للتجريد ولماذا. علينا أن تستوعب واسع الإدراك ما نعلمه وما لا نعلمه قطعًا، ليتسنى لنا في الوقت المناسب تحديد ما نقرأه وما نسمعه وما نبحث عنه تاليًا بدقة، ولماذا. فإن كان ما يشد هواك الآن هو فلانري أوكونر وووكر بيرسي فتابع دربك، المهم أن تعرف مخطوطات أخرى تسعى في تلوينها في قادم عهدك.

ربما الكلام أسهل من الفعل، لكني أراه مسلكًا أجدى من معاملة عظيم الأدب وكأنه قائمة مهام. أما ليكس، لنأمل أنه في يوم ما قرب منتصف فبراير يجد كتابًا يعجبه أشد العجب، فيحوّل مساره إلى اتجاه مختلف كل الاختلاف حتى نهاية السنة. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

القراءة للمتعة

كتب كِت ولسن مقالة ينتقد فيها النهج المتبع في نهل الأدب، آخذًا تغريدة لخطة قراءة السنة ثم باحثًا عن نهجٍ أسلم. أعرض هنا ترجمتي لها: في رفض ...