الجمعة، 24 مارس 2023

اجتثاث الأدب


 
كتبت ميري غيتسكل مقالة تتحدث فيها عن رؤية الناس للأدب، قارئين كانوا أم كاتبين، بين الماضي والحاضر. أعرض هنا ترجمتي لها: 


لأنني كاتبة أدب تخيّلي تدرِّس، دائما ما أتحدث عن حبي للخيال الأدبي وما الذي يجعله ماتعاً ومؤثراً. سأقدم هنا نسخة من كلام رددته كثيراً على مر السنين لطلابٍ ولأطياف أخرى مهتمة، وهو كلام -لا أدري كيف أصف ما أضحى إليه- لم أعد موقنة به في السنوات الخمس الأخيرة؛ لا لأني لا أؤمن به وليس بسبب قلة اهتمامي به الآن، بل لأني لم أعد متأكدة أنه ذو معنى للناس.

شعوري هذا حاضر لعدة أسباب، معظمها يتعلق بكيفية تلقي المعرفة والمعلومات وكيف غير هذا طبيعة الإدراك. ما أقوله ليس سابقة: انظر إلى الآيفون والإدمان على النظر إليه، تحوّلٌ مدوٍ له عواقب جلية في كيفية فهم الناس لكتابة وقراءة الرواية الخيالية.

كم هو شاق الحديث عنه بذاته -أعني كتابة وقراءة الرواية الخيالية- إلا أن تنكبّ عليه كبّا، لأن الآراء حوله ذاتية في المقام الأول؛ أحدهم يجد الكتاب عظيماً وآخر يراه مملاً، وثالث يراه خاوٍ من أي معنى. وهذه آراء تحمل في طياتها تأثراً سياسياً اجتماعياً، إلا أنها شخصية أيضا إلى درجة استحالة تحليلها. زد على ذلك أن الكتابة الحسنة تعتمد على السياق، فقد تجد عبارة أو جزئية أكبر قبيحة في سياق ومذهلة في سياق آخر. حينما تقرأ مراجعة كتاب في غودريدز أو نيويورك تايمز، ما تقرأه عادة هو وصف للحبكة، وللشخصيات، وماذا يظن المراجع (واسع الخيال أحياناً) عن رسالة المؤلف. هذا لأن هذه العناصر مهمة، وهي أيضا سهلة والحديث عنها ممتع.

بيد أن الأهم لا يُكتب عنه غالباً، فالتحدث عنه مستحيل، وهو ما أراه النسيج الداخلي؛ الحياة الكامنة وراء ظاهر القصة. فيها يعمل كل من الحبكة والثيمة عمل قناة؛ محتوىً لا يوصف شبيه بالعقل الباطن لشخصٍ أو لأحشاء جسد، الباطن لا يُرى بل يُستشعر، قد لا تفهمه إلا أنك تحس به. كلنا جرّبنا الحديث مع شخص يظهر عليه الود، يبتسم لك ومع ذلك لا ترتاح له؛ والعكس صحيح، قد مر بنا من يظهر عليه الوقاحة والخشونة، إلا أننا لسبب ما يتملكنا شعور طيب له، نتعاطف لشيء خافٍ تحت الإشارات الاجتماعية بل حتى نقيض لها.

لن ترى أحشاء الجسد ما لم تكن جراحاً أو شاهداً على حادثة شنيعة، لكن إن لمست جسد أحدهم ستستشعر يدك النبض وراءه، وقد تشمها في يوم قائظ. سواء شممتها وأحسستها أو لا، الأحشاء هي ما يحكم الجسد. باطن العقل والأحشاء كلاهما قوة جوهرية للشخص أمامك، شيء ما شبيه للجودة الجوهرية الداخلية هي ما تحدد حياة النص المكتوب من عدمه. وهي ما تحدد ماهية النص، مثلها مثل الحبكة والثيمة وحتى الشخصيات. والغريب أن الكتّاب أنفسهم لا يميزون القوة الداخلية لنصوصهم لأنها متشابكة بنظرتنا الخاصة للنص، بالكاد نلحظها، كما نلحظ أنفاسنا.

تناقض هذه الجودة الداخلية الغامضة في كون عمقها يعبَّر عنه بما نراه سطحياً في النص: الأسلوب الأدبي [Style]. أفضل تعريف وصلني للأسلوب الأدبي سمعته من رجل غريب الأطوار يفرقني عمراً يدير مكتبة صغيرة عند مكان دراستي في ميشيغان. بقولي يفرقني في العمر أعني أنه كان في عقده الخامس بينما كان عمري ٢٢ عاماً، إلا أنه كان غريب المظهر، يوحى إلى الناظر أنه إما طاعن السن أو لا يشيب، بجسد لا شكل له ونظارات صغيرة سميكة العدسات ملتصقة برأسه البيضاوي الأصلع. يشاركه المكان رجل يبيع النباتات، يُرى دائما على كرسي صغير مرتفع وسط غابة من السعف يقرأ منهمكاً.
 
وجدته مذهلًا ناهلاً من علم ما توفر له -اعتقدت أنه قرأ كل ما كُتب- أكثر من جل أساتذتي. يرى هذا الرجل الأسلوب الأدبيَّ "نتيجة ثانوية حتمية" للكاتب في سبيل استشعاره شكلَ مؤلَّفه، مروراً باختيار الكلمات والقرارات الصغيرة وحتى الكبيرة. لم أستسغ مصطلح "نتيجة ثانوية"، لم أرها مركزية كما يجب أن تكون -من ذلك الحين كان يهمني الأسلوب الأدبي-؛ فقال أنه قصدها كما في النباتات، حيث المظهر هو النتيجة الثانوية للعمل الداخلي، وأنه السبيل الأوحد للنبتة حتى تُرى على قدر تركيبتها الجينية.
 
لم يغب عن بالي هذا التعريف قط، إذ أنها استعارة دقيقة مذهلة أيما إذهال. لا علم لي إلى أي حد يتقارب التوافق بين الأسلوب والمضمون، إلا أنها نظرة بليغة للأسلوب الأدبي حينما ينضج عن عمل صادق مرهف، ناجماً من أضمر دواخل المؤلف؛ حيث منتهى وجدان ما وراء الوعي.
 
أحد أهم عناصر الأسلوب الأدبي عندي هو وصف العالم الذي يخلقه المؤلف. تؤدي هذه التقنية المهمّشة في وقتنا هذا مقاصد مفيدة وعملية، مثل الإيصال غير المباشر لمشاعر الشخصية ووضع القارئ في موضع مناسب لعالم الشخصية: من أين؟ ما هي حالته المادية؟ ما هو حال الحي الذي يسكن به؟ بل حتى تخوض إلى ما هو أبعد: بإمكانها منح كلمات لما لا يعبَّر عنه وتشكيل عديم الشكل من خلال خلق رسوم وصور تتصل وراء العقلانية بأعمق مكامن جسد القصة؛ الأحشاء (اللا وعي).
ما الذي أعنيه بكلامي؟ الخيال الأدبي -وإن كان وراء الطبيعة أو خيالاً علمياً- يحكي عن الحياة، والحياة لا تُرى بالكلمات. فكر بكمّ الأحداث والأحوال التي مرت بك ولا تقدر على وصفها بالكلمات، حتى أسهلها؛ تعبير بملامح الوجه مثلاً. تمضي الحياة حتى في يوم هادئ كثيفة سريعة حولنا ومعظمها يعاش بالنظر والشعور والتفكير، متسعصية على التدوين المباشر. تترجمُ الكتابةُ الأحداثَ إلى كلمات، بيد أن المفارقة في كون أشدها أثراً ما يطوّع الكلمات متعدياً اللغة ليخطّ ما هو أصدق للحياة؛ محاكية عيشنا في عالم لا ينفك عن التغيّر والتحرّك أمام مرآنا. 
 
فالكتابة عملية عقلانية من أفكار وخواطر متصلة، أما الكتابة العظيمة فهي من منشأ أغرب؛ واجهة بين الإدراك الوجداني للشخص والعوالم الاجتماعية والطبيعية. وهي مرتبطة بالعقلانية ارتباط الأحلام بالخواطر؛ شاعرية وغير عقلانية. فمن خلال وسائلٍ شاعرية ولا عقلانية يُشع العالم غير المرئي في قصتك، كما توهج موسيقا صاخبة مشهد فلم أو مسلسل.
سأكتب اقتباساً من رواية فلاديمير ناباكوڤ "نار شاحبة" مثالاً لما أعنيه في حديثي، ومع أن هذه الرواية لم تلق شعبية رواية لوليتا إلا أنها خلّابة بتميّزها في اختلالها. الراوي في هذه الرواية شخص يبدو عليه العته، بروفيسور أدب شاذ في كلية في نيو إنغلاند ويزعم أنه ملك في منفاه. اسمه تشارلز كينبوت وجل مروياته تعنى بمشاعره غير المتبادلة مع جاره الشاعر جون شيد، وتتقاطع القصة مع ذكرياته في مملكته المذهلة زيمبلا حيث يأخذ ما شاء واشتهى من رجال وصبيان. بيد أن التقاليد -حتى في زيمبلا- تفرض عليه الزواج، فاختار امرأة شابة جميلة زوجة له؛ لصغر سنها لم تفهم لمَ لا يشتهي زوجها جماعها فعاشت بائسة. ليست شخصية مهمة أبداً ولم تحظ إلا بأسطر معدودة في كتاب يقع في ٣١٥ صفحة، سأعرض هنا اقتباسين منها (نقلت إليكم ترجمة الاقتباسين الصوتيين في المقالة الأصلية، هذا وما يليه):
 
❞ ما حد المشاعر التي كان يكنّها لـ»ديزا»؟ لامبالاة ودية واحترام بارد. لم يشعر تجاهها بأي رقة أو إثارة، حتى في ميعة زواجهما الأولى أما العطف والشجَن، فغير واردين كان، وظل على الدوام، مستهترا متحجر القلب لكن قلب ذاته الحالمة تغير تغيرات رائعة، قبل الانفصال وبعده.

 ‫هام بها في دنيا الحلم أحياناً، بعاطفة لا مثيل لها، أحلاما أكبر مما سمحت بها أحاسيسه الظاهرة كانت هذه الأحلام تحصل متى فكر فيها ولو وهلة قصيرة؛ فتحمل الأشجان، التي لا صلة بها بأي حال، صورتها إلى العالم الباطني مثلما يصبح عراك أو ترميم كأنه طائر عجيب في حكاية أطفال صيّرت هذه الأحلام التي تفطر  قلبه النثر الباحث حول أحاسيسه تجاهها شعراً متينا ًونادراً، تومض مويجاته الخامدة وتستبد به طيلة النهار، فتعود به إلى الأسى والترف ــــ ثم وحده الأسى، ثم وحده انعكاسه العابر ــــ لكن من غير أن تؤثر البتة في سلوكه تجاه «ديزا» الحقيقية.

أخذت صورتها، إذ كانت تقتحم منامه وتعود إليه ثانية، وتنهض متوجسة من أريكة بعيدة أو تذهب بحثا عن المبعوث الذي اخترق الستائر، كما قالوا، في الحسبان تغييرات الموضة لكن «ديزا» صاحبة الفستان الذي رآه في صيف انفجار مصانع الزجاج، أو يوم الأحد الأخير، أو أي وقت بغرفة الانتظار، بقيت إلى الأبد تماماً كما بدت يوم أخبرها أول مرة أنه لم يحبها حدث ذلك خلال رحلة إلى إيطاليا، بحديقة فندق على ضفة بحيرة ــــ حيث الورود وشجر الأروكاريا والكوبية الخضراء الذابلة ــــ 
ذات مساء صحو، بينما تسبح الجبال المطلة على الضفة البعيدة في ضباب الغروب، وتتنمنم البحيرة الخوخية اللون كلها بانتظام بزرقة باهتة، وتعرض جريدة عناوينها البارزة في الأسفل الموحل قرب الضفة الصخرية، تبدو حروفها واضحة تماماً عبر طبقة الطين الضحل الشفاف. ولأنها عندما سمعته، خرت على الحديقة في وضع مستحيل، مدققة في غريسة عشب ومقطبة وجهها، سحب كلماته على الفور لكن الصدمة رصعت المرآة حتماً، فتأثرت صورتُها في أحلامه، منذ ذلك الحين فصاعداً، بذاكرة ذلك الاعتراف، كأنما أصابتها عدوى مرض أو الآثار الخفية اللاحقة لعملية جراحية حميمة للغاية لا يؤتى على ذكرها. ‫ 

كان جوهر الحلم، بدل حبكته الفعلية، نفيا مستمرا لكونه لا يحبها تجاوز حلمه ــــ حبه لها، في نبرته العاطفية، في شغفه وعمقه الروحي، أي شيء آخر اختبره في وجوده الظاهر صار هذا الحب أشبه بليٍّ سرمدي بالأيدي، مثل تخبط الروح في متاهة لامتناهية من اليأس والندم كانت، إلى حد ما، أحلاما عاشقة، لأنها مشبعة بالرقة، بالتوق إلى أن يغوص برأسه في حضنها ويبكي الماضي الشنيع كانت مترعة بالوعي المرعب بأنها امرأة في ريعان الشباب، لكنها عاجزة للغاية كانت أطهر من حياته لم يكن ما بها من هالة شهوانية نابعاً منها، بل من أولئك اللواتي خانها معهن ــــ «فرينيا» ذات الذقن الزغب، «تيماندرا» الجميلة بتلك الفورة تحت مئزرها ــــ ومع ذلك، ظل الزبد الجنسي ثاويا في مكان ما أعلى بكثير من الكنز المغمور، فلم يعبأ به تماماً. ❝


*‏نصاً من ترجمة محمد جليد، منشورات الجمل
 
 
لاحظ في البدء اللغة التعبيرية في الجمل، تكاد تنفصل عن معناها؛ خامدة، ناعمة، متموجة، واهنة الشكل، ومتضخمة بمعاني الكلمات "النعمة الفاترة لحزن لا يوصف". "تخبط الروح"، حركة المياه الساكنة، الشعور الخامد لا ينفك يخمد أكثر ثم يعود سريعاً كما كان. يشعل هذه اللغةَ التوقُ إلى مثالية لا تتحقق، تدمي في خضم الواقع الجامد "نتانة فاضحة ضحلة" في وجه الألوان الرائعة، غبش وامتزاج الحقيقي وغير الحقيقي، الحلم الذي قد يكون وهماً وقد يكون واقعاً أصدق من الحياة التي تعيشها الشخصية، "الكنز الغريق" المتشبث تحت زبد السطح. 
 
الواقع أن هذه الصورة -وهي أعمق في المشاعر ربما من بد كل ما في الرواية- هي جسر بين العالم المتخيل والحقيقي والاضطراب بينهما؛ ما خفي هو الحقيقي وقد لا نراه أبداً. هذا عندي هو الركيزة العاطفية في الكتاب، مثل الكنز مخبأً في ثنايا وصف شخصية ثانوية، وصف لا علاقة له في "تقدُّم أحداث القصة". 
 
المثال التالي بعيد كل البعد عن سابقه، أول قطعة لقصة ألفتها فلانري أوكونر بعنوان "مواطنون صالحون" [Good Country People]؛ وهي أيضا -على قصرها- تسهب الخوض في شخصية ثانوية.
وهذا مثال عظيم على الغرض النفعي في الوصف: نتعرف على شخصية محلية، نسمع كيف يتحدثون مع بعضهم، نلمح كيف يعيشون ويأكلون. وفيه أيضاً تُقدَّم لنا ثيمة عناد شديد، حالة لا يرى بها غير اتجاهيْن، حيث لا يشغر التساؤل حيزاً فيها:
 

❞ طالما اعتات السيدة «فريمان» أن تجلس بمفردها ويرتسم على وجهها ملامح جامدة صلدة، وإلى جانب ذلك الوجه كان هناك طبيعتين: فتارة تتعامل بوجهٍ طَلِق وجرئ؛ وكان هو السائد والأصيل في معظم معاملاتها الإنسانية بأغلب الأحيان فكانت كمن يقود سيارته بشكلٍ اندفاعيٍ لا يأبه مما يواجهه فلم تختلس النظر يمينًا أو يسارًا كأنما تتبع خطًا أصفر اللون يتوسط طريقًا سريعًا؛ ولكنها على دراية تامة بمجريات الأمور من حولها مما تلمحه بطرف عينيها، وتارة أخرى قلما تلجأ للوجه الذي تغمره إمارات التشوش والارتباك والخجل، لأنها عادةً لا تتراجع عما انطلق منها قولًا أو ما سيكون، ولكن بفرض صدر منها هذا التصرف؛ كانت ملامح الجمود والثبات تتشكل على وجهها وحينئذ تتحرك عيناها السوداوين يمنة ويسرة بشكلٍ لا إراديٍ غير ملحوظ لتبدو كأنما تتقهقر عن موقفها، فتقف ومن يشاركها الموقف في جمود وكأن على رأسيهما الطير فكلما أرادت السيدة «هوب ويل» أن تخاطب السيدة « فريمان» وهي بتلك الحالة كان يتملك الأولى اليأس فتصيح بوجهها لعلها تفيق من هذا الحال وتتخلص من صمتها الرهيب، فلم تكن السيدة «فريمان» تمتلك قدرًا كبيرًا من السلام النفسي وتقبل الاعتراف بأخطائها على الإطلاق، بل كانت تتصلب وإذا ما رغبت في قول شيءٍ ما؛ كانت تتفوه بالتالي: «حسنًا، ربما ما كان يتحتم عليّ فعل ذلك الأمر، وربما العكس!». 

أو أنها تصمت وهي تحملق في رف المطبخ حيث يوجد مجموعة من الزجاجات المتسخة وتستكمل حديثها، قائلة: «أرى أنك لم تأكلي الكثير من التين الذي جلبتيه الصيف الماضي!». ❝


*نصاً من ترجمة إسلام محمود، المصري للنشر والتوزيع
 
 
الصوت ماكر فيه شيء من الهزل، إلا أن ما يصفه ثقيل وعيني، عالم محدود من أكياس الحبوب والشاحنات الثقيلة، لا مساحة فيه للتلون والحذق؛ مكان بائس لعقل معقّد. وفي نهاية القصة، تلقى إحدى الشخصيات العنيدة والمعقدة نفسها في المكان عينه، معاقة بجسدها الناقص، في نسخة متطرفة من الحالة المتنبأ بها في القطعة الأولى. لن تتذكر أسطر القطعة الأولى في النهاية ولن تحتاج التذكر، لأنك شعرت بها وستدرك التأثير في النهاية، بالذات حين ظهور السيدة فريمان فتؤكد الربط بمجرد حضورها. 
 
الحق أن قلة من الناس يقدر على مثل هذه الكتابة، قلة منهم حتى حاول؛ مانعه في جزء أن مثل هذا الانتباه الدقيق لوصوف دقيقة عن العالم المرئي أو تصويراته منذ زمن ولا تزال تلقى إجحاف التقدير وإنعدامه أحيانًا. خضت عام ٢٠٠٠ نقاشاً جامعياً مع زميل المهنة جورج ساوندرز. وفي خضم النقاش قلت ما كتبته في هذه المقالة مع التركيز على الاستعمالات العملية للأسلوب، مثلًا: أن تضع نفسك في جسد إحدى الشخصيات، وتجعلها تنظر إلى النافذة. العالم بأسره خارج النافذة، ما هو شعورك وأنت داخل الشخصية: السماء، الأشجار، المباني.. فانفجر جورج متحمّسًا: "ومن يفكر هكذا حقاً؟ من ذا اللي يفكر بالأشجار حين ينظر من النافذة؟ هذا تفكير الناس داخل الكتب".. أو شبيه لهذا الاقتباس، أنقل مقصده فقط. 
 
أدركت من تعليقه أني بدوت متصنعة سخيفة للفن أو تقليدية، لكني أعتقد أن الناس لا زالوا ينظرون من النافذة. قد لا يفكرون بالأشجار أو المباني أو السيارات أو الناس أو أي شيء يرونه؛ لكنهم يتلقّون كل ما يُرى، أو على الأقل كانوا. عام ٢٠٠٠ كان قبل العصر الذي تملك فيه كل أحد جوّالاً وسماعات لا سلكية، فهذا غيّر مجرى الأمور. نحن الآن أقل عرضة وإمكانية لتلقّي الأشجار، فقد لا نراها حتى إن نظرنا من النافذة.
 
أتت جويس كارول أوتس مؤخرا في ٢٠١٩ إلى كلية كريلمونت مكينا حيث كنت أدرّس وقتها وواجهَت فقرة أسئلة بخالص الود. أحضرت معي الكاتب جون أبدايك لأني كنت أدرس طلبتي رواية ألفها، وكان الطلبة يستصعبونها لأنه متحيز ومنتكس في سلوكه العنصري في جزء، ولأنه يفرط شرحاً لكلماته ويطنب في الوصف في الجزء الأعم؛ فتجده يكتب صفحات في وصف طريق سفر إلى منطقة ريفية. صعُب على الطلاب حتى تعقّب الأحداث، يمكنهم الإحاطة بها لكنها تسلتزم جلداً (أقل القليل أنها أعجبت أحدهم بعد ما استوعبها، وهذا أمر طيب). 

أردت سماع رأي أوتس عن هذه الرواية لأنها من جيل قديم، نفس جيل أبدايك. وما قالته -في ما معناه- هو: نعم، جون قادر على وصف أي شيء لكن لا أحد في وقتنا هذا يريد قراءة ما يكتبه، لأن -هنا أقتبس مباشرة- "الناس تجاوزوا هذه المرحلة".. فاجأني كلامها. "تجاوزوا"؟ هل تجاوزنا العالم الذي نعيش فيه؟ أهذا معقول؟

لعلمكم أني لا أقصد امتهان ساوندرز أو أوتس، فأنا أجلّهما، وما كانا إلا يطلِقان ما في جعبتهما (قد يظن جورج بالذات أني أبدو متعالمة، والحق أني أتفّهم مثل هذا الحكم؛ بيد أن هذه الأمور واقعية عندي وتستحق بليغ الكلامات وأقواها وأدلّها). وإن يكن، كلماتهما علقت في ذهني. كلاهما كاتبان رصينان ومميزان وبحسٍّ مختلف عنّي وقد يكونا على حق، محتمل -الحق هذا الأرجح- أن الأدب تجاوز المرحلة. لم نعد نرى العالم الحقيقي كما كنا، فلم نكتب كما كتبنا حينها. وهذا أحد أسباب أخذه استهتاراً فيُهمل حتى الدمار.

قد يُحمل كلامي محملاً بلاغياً، وهذا ليس مقصدي. وأتعجّب، على العينة التي مرت علي في قاعات دراسة الكتابة صغاراً كانوا أو كباراً، من كم الذين: ١) يعبرون عن قلقهم الشديد من التغيّر المناخي وآثاره على الكوكب، ٢) لا يهتمون أبداً برؤية غيرهم للعالم الذي يهتمون به؛ شكله وإحساسه وصوته، ٣) أقل اهتماماً حتى بالكتابة عن رؤيتهم له أو أقلها الالتفات لها. وفي التمارين الكتابية أيضاً، يصعب عليهم مثلاً وصف وجه أحدهم وصفاً وافياً. وما علّتهم أنهم لا يقدرون على الوصف، بعضهم يبدع إذا حاول؛ لكن الفكرة لا تتجلى لهم كما أظن أنها تتجلى عفوياً لجيلي.

ولعجبي، أحد الطلبة صرّح لي أنه لا يحب وصف تفاصيل أشباه الناس لأنه يظن فعلًا كهذا لا يختلف عن التحديق في وجه أحدهم وهذه وقاحة. وآخر أدلى اعتراضاً شبيهاً بأن الوصف يقتضي تقييم مظهر الموصوف على معايير الجمال التقليدية. واعتراض هذا الأخير باطل كلّه، فتحديد معايير الجمال التقليدية ممكنٌ بعيداً عن وصف وجه أحدهم للتركيز على ملاءمة طبيعة الموصوف مع ملامح وجهه.

أما الاعتراض الأول فهو منطقي عندي خلاف لاحقه،  لكنه يخلط بين المظهر الاجتماعي والمظهر الفني؛ فالمظهر الفني يُخلق من الاهتمام والاحترام. مثل قولك: أرى هذا الإنسان بعين عقلي وهو يستحق أدقّ ما أقدر من اهتمام، لأنه لن يبقى إلى الأبد وهو رائعٌ روعة الحيوانات الذين تشاهدهم في الوثائقيات التي تعرض جمال الحيوانات الوجلة المضني. هذا تبجيل تجاوز الاحترام، صورة أغزر وأرق من التبجيل الشائع -أو كان على الأقل- بين العوام أو غير الكتّاب.

أستذكر الآن ما شاهدته في محطة أنفاق بداية الثمانينات، لعلها ١٩٨٢. كنت جالسة في مؤخرة القاطرة الأخيرة ورأيت ثلاثة فتيان أو أربعة -أتذكرهم بعمر بين الحادية عشرة والثالثة عشرة، ربما أصغر- مجتمعين عند النافذة الخلفية محدقين خلالها شاخصين، غلبني الفضول فطللت فوق أكتافهم أشاهد ما أخذ انتباههم: ذلك المزيج الخارق بين السرعة والكثافة بينما يحتمي وطيس القطار ضارباً خرسانات الأنفاق ومعادنها، يترنح مرآنا منحى القاطرات، خاطفاً شذرات من وليد الشرار في كبح المعدن، وإشارات النفق، وميض السكة فسوادها كلما تقعقعنا من محطة لأختها قاطعين عشرات المنتظرين، أناس شتّى رأيناهم بأعيننا يتكلمون بأجسادهم قبل أن تقرأها عقولنا. كانت تجربة آخاذة أسرت قلوب الفتيان، الدهشة البكماء لكل ما يدرك. 

أظنني أتذكر المشهد واضحاً بعد هذه السنين لأن نظرات الفتيان كانت تبجيلاً طبيعياً لم يلقَّنوه؛ وإن كان المشهود ليس من جنس الطبيعة. وقد يكون صغر سني وقتها -وكنت في العشرينات- سبباً آخر لحفظه في ذاكرتي، أتلقّف بلا وعي ما يهمّني في الحياة والفنون التي أشتغلها. ومع جزمي بأنهم لم ينتبهوا لي إلا أن مشاركتي إياهم المشهد كانت مدركاً روحياً مثيل شعوري وأنا أقرأ كتاباً وحيدةً في غرفتي، أقرأ العالم من عينيّ كاتب فذ.

قد يبدو التماثل غريباً، لكنه منطقي عندي لأنه مثال حي لما تحدثت عنه بداية المقالة؛ قدرة كشف مكمون القصص عبر صور وصفية لما لا علاقة له لظاهر القصة. أمور لا نتوقع تأثيرها ونلحظها زاخرة أو بطرف عين، رسمات تُلمح خارج حدود حياتنا اليومية.

يحزنني هاجسي بأن الفتيان عينهم في وقتنا هذا -إن كانوا أحياء- لن ينظروا خلال نافذة القاطرة لأنهم يحدقون في شاشات هواتفهم. بيد أن الأمل موجود ما دامت تلك القدرة في دواخلهم، تنتظر من يحييها.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

القراءة للمتعة

كتب كِت ولسن مقالة ينتقد فيها النهج المتبع في نهل الأدب، آخذًا تغريدة لخطة قراءة السنة ثم باحثًا عن نهجٍ أسلم. أعرض هنا ترجمتي لها: في رفض ...